فصل: الخبر عن مهلك السلطان أبي زكريا وما كان عقبه من الأحداث.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن مهلك السلطان أبي زكريا وما كان عقبه من الأحداث.

كان السلطان أبو زكريا قد خرج من تونس إلى جهة قسنطينة للإشراف على أحوالها ووصل إلى باغاية فعرض العساكر بها ووافته هنالك الدواودة وشيخهم موسى بن محمد وكان منه اضطراب في الطاعة فاستقام وأصاب السلطان هنالك المرض فرجع إلى قسنطينة ثم أبل من مرضه ووصل منها إلى بونة فراجعه المرض ولما نزل بظاهر بونة اشتد به مرضه وهلك لسبع بقين من جمادي الآخرة سنة سبع وأربعين وستمائة لاثنتين وعشرين سنة من ولايته ودفن بجامع بونة ثم نقل شلوه بعد ذلك إلى قسنطينة سنة ست وستين وستمائة بين يدي حصار النصارى تونس وبويع إثر مهلكه ابنه ولي عهده أبو عبد الله محمد كما نذكره وطار خبر مهلكه في الآفاق فانتقض كثير من أهل القاصية ونبذوا الدعوة الحفصية وعطل ابن الأحمر منابره من الدعوة الحفصية وتمسك بها يغمراسن بن زيان صاحب المغرب الأوسط فلم يزالوا عليها حينا من الدهر إلى أن انقطعت في حصار تلمسان كما نذكره ولما بلغ الخبر بمهلكه إلى سبتة وكان بها أبو يحيى بن الشهيد من قبل الأمير أبي زكريا كما نذكره وأبو عمرو بن أبي خالد والقائد شفاف فثارت العامة وقتل ابن أبي خالد وشفاف وطردوا ابن الشهيد فلحق بتونس وتولى كبر هذه الثورة حجبون الرنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي.
واتفق الملأ على ولاية العزفي وحولوا الدعوة للمرتضى وذلك سنة سبع وأربعين وستمائة وتبعهم أهل طنجة في الدعوة واستبد بها ابن الأمير وهو يوسف بن محمد بن عبد الله أحمد الهمداني وكان واليا عليها من قبل أبي علي بن خلاص فلما صار الأمر للعزفي والقائد حجبون الرنداحي خالفهم هو إلى الدعوة الحفصية واستبد عليهم ثم خطب للعباسي وأشرك نفسه معه في الدعاء إلى أن قتله بنو مرين غدرا كما نذكره وانتقل بنوه الى تونس ومعهم صهرهم القاضي أبو الغنم عبد الرحمن بن يعقوب من جالية شاطبة انتقل هو وقومه إلى طنجة أيام الجلاء فنزلوا بها وأصهر إليهم بنو الأمير وارتحلوا معهم إلى تونس وعرف دين القاضي أبي القاسم وفضله ومعرفته بالأحكام والوثائق واستعمل في خطة القضاء بالحضرة أيام السلطان وكان له فيها ذكر.
ولما بلغ الخبر بمهلك الأمير أبي زكريا إلى صقلية أيضا وكان المسلمون بها في مدينة بلرم قد عقد لهم السلطان مع صاحب الجزيرة على الاشراك في البلد والضاحية فتساكنوا حتى إذ بلغهم مهلك السلطان بادر النصارى إلى العيث فيهم فلجأوا إلى الحصون والأوعار ونصبوا عليهم ثائرا من بني عبس وحاصرهم طاغية صقلية بمعقلهم من الجبل وأحاط بهم حتى استنزلهم وأجازهم البحر إلى عدوته وأنزلهم بوجاره من عمائرها ثم تعدى إلى جزيرة مالطة فأخرج المسلمين الذين كانوا بها وألحقهم بإخوانهم واستولى الطاغية على صقلية وجزائرها ومحا منها كلمة الإسلام بكلمة كفره والله غالب على أمره.

.الخبر عن بيعة السلطان أبي عبد الله المستنصر وما كان في أيامه من الحوادث.

لما هلك الأمير أبو زكريا بظاهر بونة سنة سبع وأربعين وستمائة كما قدمناه اجتمع الناس على ابنه الأمير أبي عبد الله وأخذ له البيعة عمه محمد اللحياني على الخاصة وسائر أهل المعسكر وارتحل إلى تونس فدخل الحضرة ثالث رجب من السنة فجدد بيعته يوم وصوله وتلقب المستنصر بالله ثم جدد البيعة بعد حين واختار لوضع علامته: الحمد لله والشكر لله وقام بأعباء ملكه وتقبض على خاصة أبيه الخصي كافور كان قهرمان داره فأشخصه إلى المهدية وأوعز إلى الجهات المهدية وأوعز إلى الجهات بأخذ البيعة على أهل العمالات فترادفت من كل جانب واستوزر أبو عبد الله بن أبي مهدي واستعمل على القضاء أبا زيد التوزري وكان يعلم ولد عمه اللحياني الثائر عليه كما نذكره والله تعالى أعلم.

.الخبر عن ثورة ابن عمه محمد اللحياني ومقتله ومقتل أبيه.

كان للأمير أبي زكريا من الإخوة إثنان: محمد وكان أسن منه ويعرف باللحياني لطول لحيته والآخر أبو إبراهيم وكان بينهم من المخالصة والمصافاة ما لا يعبر عنه.
ولما هلك الأمير أبو زكريا وقام بالأمر ابنه أبو عبد الله المستنصر واستوزر محمد بن أبي مهدي الهنتاتي وكان عظيما في قومه فأمل أن يستبد عليه لمكان صغره إذ كان في سن العشرين ونحوها واستصعب عليه حجر السلطان بما كان له من الموالي العلوجيين والصنائع من بيوت فقد كان أبوه اصطنع منهم رجالا ورتب جندا كثروا الموحدين وزاحموهم في مراكزهم من الدولة.
فداخل ابن أبي مهدي السلطان وبعث عندهما الأسف على ما فاتهما من الأمر فلم يجد عندهما ما أمل من ذلك فرجع إلى ابن محمد اللحياني فأجابه إلى ذلك وبايعه ابن أبي مهدي سرا ووعده المظاهرة ونمي الخبر بذلك إلى السلطان من عمه محمد اللحياني وحذره من غائلة ابنه وأبلغه ذلك أيضا القاضي أبو زيد التوزري منتصحا.
وباكر ابن أبي مهدي مقعده للوزارة بباب السلطان لعشرين من جمادى سنة ثمان وأربعين وستمائة وتقبض على الوزير أبي زيد بن جامع وخرج ومشيخة الموحدين معه فبايعوا لابن محمد اللحياني بداره واستركب السلطان أولياءه وعقد للقائد ظافر على حربهم فخرج في الجند والأولياء ولقي الموحدين بالمصلى خارج البلد ففض جميعهم وقتل ابن أبي مهدي وابن وازكلدن وسار ظافر مولى السلطان إلى دار اللحياني عم السلطان فقتله وابنه صاحب البيعة وحمل رؤوسهما إلى السلطان.
وقتل في طريقه أخاه أبا إبراهيم وابنه وانتهب منازل الموحدين وخربت ثم سكنت الهيعة وهدأت الثورة وعطف السلطان على الجند والأولياء وأهل الاصطناع فأدر أرزاقهم ووصل تفقدهم وأعاد عبد الله بن أبي الحسين إلى مكانه بعد أن كان هجرة أول الدولة وتزحزح لابن مهدي عن رتبته وتضاءل لاستطالته فرجع إلى حاله واستقامت الأمور على ذلك ثم سعى عند السلطان بمولاه الظافر وقبحوا عنده ما أتاه من الأفتيات في قتل عميه من غير جرم ونذر بذلك فخشي البادرة ولحق بالدواودة وكان المتولي لكبر هذه السعاية هلال مولاه فعقد له مكانه واستنفر ظافر في جوار العرب طريدا إلى أن كان من أمره ما كان.